في خطوة غير مسبوقة في تاريخ المهن البحرية بتونس، تمكنت الشابة رانيا الورتتاني، البالغة من العمر 25 عامًا، من أن تصبح أول امرأة تونسية تتحصل على صفة "بحّار مؤهل"، وهي رتبة مهنية تتطلب جهدًا بدنيًا ونفسيًا عاليًا عادة ما يكون محصورًا بين الرجال.
تعود بدايات قصة رانيا مع البحر إلى طفولتها المبكرة، عندما كانت تقطن مع أسرتها في الضاحية الشمالية للعاصمة تونس. كانت البواخر المارة عبر الأفق البحري تثير فضولها، حتى أنها كانت تقول لوالدها: "عندما أكبر، سأعمل هناك". كان حديث طفلة يحلم بمستقبل بعيد، لكنه تحول لاحقًا إلى مسار مهني اختارته بإرادتها الكاملة.
وبعد سنوات من الدراسة، التحقت رانيا بالمعهد المتوسطي للتكوين في المهن البحرية، حيث اختارت الالتحاق بتخصص "بحّار مؤهل"، رغم أن الكثيرين توقعوا أن تتجه نحو مهن أخرى تعتبرها العادات التقليدية أكثر ملاءمة للمرأة. ولم تكتفِ بالانخراط في مجال يندر وجود النساء فيه، بل أصرت على التميز، فكانت الطالبة الوحيدة من بين دفعتها.
تواجهت رانيا مع تحديات جسدية شاقة تتطلب مجهودًا مضاعفًا، نظرًا لطبيعة الأعمال التي تعتمد على القوة البدنية، من سحب الحبال الثقيلة إلى التحكم بالمعدات الضخمة على متن السفن. ومع ذلك، لم تطلب المساعدة من زملائها الرجال، بل اجتهدت في إنجاز كل المهام بنفسها لتثبت كفاءتها وقدرتها.
أما على الصعيد النفسي، فكان الابتعاد عن الأهل لفترات طويلة والتعامل مع ظروف العمل القاسية في عرض البحر من أكبر التحديات التي واجهتها. "في البداية، شعرت كثيرًا بالوحدة، خاصة خلال الأشهر الطويلة بعيدًا عن العائلة، لكن مع الوقت تعلمت كيف أواجه ذلك بالصبر والعزيمة"، تقول رانيا.
ولم يكن القبول الاجتماعي بالأمر السهل أيضًا، إذ قوبلت محاولاتها الأولى بنوع من الرفض والاستغراب سواء من المحيطين بها أو حتى من بعض زملائها ومعلميها، الذين تساءلوا عن مدى قدرتها على الاستمرار. غير أن إصرارها على تحقيق حلمها وتفوقها العملي جعلاها تكسب الاحترام والتقدير تدريجيًا.
رانيا لم تكتفِ بالعمل، بل استطاعت أن تترك بصمتها منذ بداية مسيرتها المهنية، إذ ساهمت في إنقاذ سفن من الغرق خلال مواقف صعبة، مما أكسبها سمعة طيبة داخل الوسط البحري.
واستحضرت تجربة لا تنساها، حين حاصرتهم عاصفة قوية في عرض البحر قائلة: "شعرت أنني أودع الحياة، كلمت والدي وطلبت منه السماح، لكن بحمد الله نجونا بمعجزة". هذه التجربة القاسية لم تزدها إلا إصرارًا على مواصلة طريقها بثقة أكبر.
تمثل رانيا اليوم نموذجًا ملهمًا للفتيات التونسيات، وتؤكد أن الإرادة والتكوين العلمي قادران على كسر الحواجز التقليدية، مشيرة إلى أهمية وجود دعم مؤسسي أكبر لتشجيع النساء على ولوج المهن البحرية والقطاعات غير التقليدية.
وتطمح رانيا مستقبلاً إلى مواصلة التكوين للوصول إلى مرتبة قبطان سفينة، مؤكدة أن البحر رغم قسوته علّمها دروس الصبر والمسؤولية والاعتماد على الذات.
Tags
أخبار متفرقات